نِدّية الكوميديا الإلهية ورسالة الغفران
هل سبق وأن قرأت كتابات جعلت أفكارك تتضارب في عقلك؟
كأن تكون في نزهة ثم تلمح عيناك موقفا ما، فتتسمر في مكانك، وكأنك تتذكر أين شاهدته من قبل!
وتسأل نفسك: أويعقل أن تعاد المشاهد كرة أخرى وبهذا التطابق؟ وإن حدث وكرر الموقف نفسه، فهل يعقل أن تتقاطع المشاهد؟!
وقد يحدث وتمر بذات الموقف، لن يُنَكِّره الزمن، كأنه هو، بكل تفاصيله ووصوفه.
هذا ما سيحصل معك بكل يقين تام، وأنت تغوص في رحلة عميقة بيَمِّ الكوميديا الإلهية للكاتب الإيطالي دانتي ألييغري، فكلما تجاوزت بابا ستتوقف مندهشا من تطابق الأحداث، تتوقف .. ثم تسترسل .. ثم تتوقف كرة أخرى، وستسائل نفسك مرات:
هل يمكن للأفكار أن تتشابه؟
ثم في محاولة يائسة ستحاول إقناع نفسك بالإيجاب، أي نعم تتشابه الأفكار وتتوارد، وهناك كتابات كررت بتاريخ الأدب، ولازلنا نقرأ كتابات كثيرة تتقاطع في العديد من المواضيع.
ولكن، هل يمكن أن تتقاطع القناعات والتوجهات الفكرية؟ هل يمكن أن تتشابه المشاعر والأحاسيس؟
الكوميديا الإلهية : الاِستنساخ الأول من نوعه في تاريخ الأدب العالمي
كلما تعمقت في القراءة، ستُحال فورا على مقصورة العصر العباسي، إلى سوريا وتحديدا بمعرّة النعمان، مسقط رأس رهين المِحبَسين، الشاعر الضرير أبي العلاء المعري ..
فلا يمكن للأفكار أن تكون بهذا التقارب، سيما أن ما بين أيدينا شعر، والشعر كتل من الأحاسيس والمشاعر، لا تتشابه ولو اجتهد الشعراء في ذلك، فلكل شاعر بصمته وفلسفته الخاصة، فالعين القارئة والخبيرة تستطيع تمييز الشعر، وتمييز صاحبه، بل وتستقرأ الظروف المحيطة التي أدكت موهبته، وأشعلت فتيل إبداعه ..
عندما يستفتح دانتي ملحمته بشرع باب الجحيم، يخيل إليك للوهلة الأولى رجل يتوكأ على عصا ويشق رمال صحراء أرابيا، فتظهر لك في أفق النص عدمية وفلسفة رجل أعمى البصر، مصاب بالجذري، أصبح رهين عماه وداره، مما جعل منه فيلسوف شعراء العرب في عصره، وفي كل العصور، الرجل الأكثر شبها بهوميروس صاحب الإلياذة ..
قرائتك للكوميديا الإيطالية ستجعلك تحزم أمتعك لتعود قرونا إلى الوراء، لتجزم بعد ذلك أنها لم تكن سوى عملية تحوير، وإعادة صياغة لرسالة الغفران للمعري، وكل من سيقرأ العملين بصرف النظر أيهما الأحق بالأولوية، سيتأكد أن أحدهما قد تأثر بفكر الآخر وبتوجهاته الفلسفية، ولكنه بعد بحث بسيط سيجد أن السبّاق إلى هذا العمل الأدبي الضخم هو رهين المحبسين، ليأتي عمل دانتي بعده بقرون.
وبما أن السابق هو أبو العلاء المعري، فلا شك أن الإيطالي قد تأثر بشعر هذا العربي، كما تأثر غاليليو غاليلي بأبحاث ابن الهيثم، وكما تأثر الجو الأوروبي القروسطي بالنهضة الإسلامية، بيد أن دانتي لم يكتف بفلسفة ورؤى شاعرنا العربي، بل استمد أفكاره من المصادر الشرقية وبخاصة المصادر الإسلامية، فوصف الجحيم الوارد في القرآن، وقصة المعراج، وفتوحات ابن عربي، ولكن تأثره بالغ الأثر بوصف الجنة والنار في رسالة الغفران لابي العلاء المعري.
وإن تنكر لي عشاق الكوميديا الإلهية هذه الحقيقة، فإن هذا التطابق المهول قد يعتبر أكبر سرقة أدبية عرفها التاريخ الأدبي، وإن استبعدنا ذلك فلن ننكر حقيقة واضحة مفادها : التأثير الهائل لرسالة الغفران على دانتي، وأيضا حقيقة تشبع الغرب بثقافة المجتمع الإسلامي منذ القِدم ..
وسيبقى الإندهاش باديا على محيا كل من خاض تجربة الغوص بهذا العمل الضخم، حين يقلب الصفحات، لن يقتنع بهذا التطابق، ليطرح السؤال في قرارة نفسه:
ترى .. هل دانتي سرق أم خلق؟!