ليس من اليسير أن تتكلم عن فوضى يحكمها المنطق، هذا ما حصل بسهولة وغرابة وسلاسة شديدة مع السيدة عبلة الرويني، الصحفية المصرية في كتابها "الجنوبي" عن سيرة زوجها الشاعر الكبير الراحل أمل دنقل.
سيرة الجنوبي تجسيد لحياة شاعر متمرد على العادة والطبيعة
هذا الشخص الغريب الأطوار، في لباسه، الذي يتأخر عن مواعيده، المتمرد الذي يقتحم حياة الآخرين، ولايدع احدا يقتحم خصوصياته، هذا الشخص القلق دائما، المتردد دوما، الذي يرفض الولاء، ولاينتمي لحزب، أو لطائفة، لِتيّار أو جماعة، لأنه يرى في هذا الولاء الجمود الذي يرفضه، فهو دائمُ البحث عن الحقيقة، حيث قال :
" ومتى القلب، في الخفقان اِطمئن"
بعد أن عزّ اللقاء .. كان الأمل يتأرجح بالميزان
السيدة عبلة الرويني، قررت أن تجري حوارا مع هذا الشاعر المتمرد، لجريدة الأخبار المصرية، ورغم تحذير الجميع لها من هذه التجربة، لكون أمل دنقل كان فظا، من وجهة نظرهم، هادم للثوابت الشعرية... إلخ.
لكن السيدة عبلة أصرت على إجراء المقابلة، وفتشت عنه في المكان الذي يجلس فيه وهو مقهى "الريش" الذي يناسب إمكانياته المادية.
لكنها لم تجده، فتركت له رقم الجريدة في المقهى، والغريب أنه بعد تلقيه الخبر، اِتصل بها مباشرة صباحا في الجريدة، الأمر الذي جعل من هذه الخطوة حدثا تاريخيا بالنسبة لكليهما، ليقررا بعدها أن يتقابلا.
لكن، أين؟
لم تجمعهما دار الأدباء التي لايعرفها، ولا المقهى كانت مناسبة، بل كان االقاء الاِستثنائي في أهدأ مكان "الحانة"،
لقاء غريب ومتمرد على مذهب صاحبه.
تكلمت معه الصحفية عن تجربته الشعرية، وعن قلبه لموازين القيم، عن الظروف والطقوس التي تسبق ولادة القصيدة، التي تأخد بعض الأحيان سنوات.
بعد أربع مقابلات، أصبحا صديقين مقربين، رغم تحفظ أمل دنقل في مشاعره، بالنسبة له، من الصعب عليه سواء على المستويين العاطفي أو المادي، أن يخوض تجربة مع عبلة، إلا أن رؤيته التعجيزية هذه لم تمنعها من الوقوع في حبه، والاِهتمام بتفاصيله إلى درجة التصريح المباشر له بكل ما يختلج نفسها اِتجاهه.
لقد كانت دائما حريصة على اِستمرار هذه العلاقة، رغم أنه حاول جاهدا ألا يضعف أمامها، وذلك بتحفظه الشديد على لقب "شاعر" ليبدو شديدا وقويا.
غير أن السيدة عبلة الرويني تحدت الجميع، وأعلنت عن حبها، لتخوض بعد ذلك تجربة الاِرتباط بأمل دنقل إلى الأبد.
هذا رغم تحذير الجميع لها من مغبة هذا الاِرتباط، أولا بسبب وضعه المادي المزري، وثانيا لسلوكه الفظ والغليظ.
إلا أن محاولاتها تكللت بالزواج، وعاشا معا في ضنك، لكنها لم تمل ولم تشتكِ، وظلت كما عرفها منذ لقائهما الأول في 1975.
غير أن الأحداث اِتخذت مسارا غير سار، بسبب إصابة أمل بالمرض اللعين الذي باغته في 1979.
ورم سرطاني خبيث، أصابه في وضع مزري، وفي حالة اِقتصادية صعبة، مما كرس المعاناة عنده، كما كشف له معادن الناس من حوله.
بوصول وضعه الصحي إلى مراحل حرجة، قرر الشاعر الكبير أخذ العلاج على نفقة الدولة، حيث كانت الغرفة 8، ملتقى الأحباب والأصدقاء، والتي تميزت برمزية أدبية، حيث الأشعار والصور وأيضا، أنفاسه التي ضمتها الغرفة رقم 8.
صاحب القصيدة الرائعة لا تصالح إلى آخر نفس، ظل قويا، صامدا في وجه المرض، لمدة أربع سنوات، وفي الليلة التي يقال أنها الأخيرة، غنى لحبيبته ورفيقة دربه عبلة الرويني،
مقطعا كان يحبه، لصديقه الشاعر عبد الرحمان الابنودي:
ياناعسة لالا
خلصت من القوالة
والسهم اللي رماني
قاتلني لا محالة
غادرنا الشاعر الكبير والحالة المتفردة، في 21 مايو 1983، عن عمر يناهز ثلات وأربعين سنة.
هذه الرحلة، كانت بمثابة رحلة الصيد الوجدانية كما أسمتها زوجته في سيرة "الجنوبي".
https://www.midade.info/2022/07/blog-post_53.html?m=1