كنت كلما عرجت على مكتبة غوغل، وقفت مشدوهة ومذهولة أمام الكم الهائل من الكتابات، التي يزخر بها هذا العالم الاِفتراضي، وكلما طالعت أكثر وغصت بين طياته، يتبادر إلى ذهني السؤال:
كم يلزمنا يا ترى من الوقت لإعادة تدوين ما تمت زخرفته على جداريات عالم الإفتراض؟
كم يلزمنا من مجلد لتدوين سلسلة الأفكار، والحروف المنثورة على قارعة هذه المواقع المتآكلة أطرافها؟
سؤال جعلني أرتد بعيدا غير قريب إلى الوراء، حيث عدت أول الأمر إلى العام 48 قبل الميلاد، تحديدا عندما قام يوليوس قيصر بحرق عشرات السفن على شاطئ البحر المتوسط، القريب من المكتبة الإسكندرية الملكية، أول مكتبة عامة في التاريخ، مما أدى إلى امتداد النيران إليها، التي دمرتها بالكامل..
لم تكن عمليات الهجوم الممنهجة محصورة في القتل والتنكيل، بقدر ما كانت تتعمد إبادة حضارات بأكملها بشتى الطرق، والتي كان أبرزها نسف ما تم تدوينه على مدى قرون ، كما فعل المغول ببيت الحكمة ببغداد، عندما أحرقوا آلاف الكتب إبان الغزو الوحشي على المنطقة، والذي أغرقوا خلاله كميات هائلة من الكتب بنهري دجلة والفرات، وهو ما حذا حذوه القشتاليون الذين أحرقوا في ظل محاكم التفتيش مليون ونصف مليون كتاب عربي، اِحتفالا بنصرهم على الموريسكيين العرب بعد إخراجهم من إسبانيا وسقوط غرناطة.
لكن بالرغم من أننا اليوم بعصر الرقمنة والتدوين الإلكتروني، فلا زالت عمليات الاِغتيال المتعمدة حاضرة وبقوة.
حياة غسان كنفاني الاِفتراضية
في أوائل السبعينيات، شكل ثلاثة مفكرين فلسطينيين - غسان كنفاني وماجد أبو شرار وكمال ناصر - المكتب الإعلامي لمنظمة التحرير الفلسطينية معًا.
تم اغتيالهم من قِبل الإرهاب الإسرائيلي على التوالي طيلة عشر سنوات، حيث اغتيل غسان كنفاني عام 1972، وناصر عام 1973، وأبو شرار عام 1981.
ولازالت الاِغتيالات إلى يومنا هذا، حيث أن الحركة الصهيونية لا تكلف نفسها عناء التمييز بين عسكري ومدني في شن حملات الاِغتيال التي تقوم بها، وهذا يدل على أن إسرائيل قتلت غسان كنفاني عمدا لإسكاته، كما فعلت مع آخرين، غير أن مخططهم باء بالفشل.
لقد مرّ على مقتل كنفاني 48 سنة، لكنه لايزال هنا، وصدى كلماته منتشر بكل مكان على وسائل التواصل الاجتماعي، أيضا بين الأجيال الشابة غير المهتمة بالكتابة أو القراءة، والتي لم تعتد على فتح الكتب، هم اليوم يتخذون من صور كنفاني واجهات لحساباتهم، وبمؤلفاته تزدان جدارياتهم الخاصة.
لقد أصبح رمزًا لعدد لا يحصى من العرب، حيث تملأ الاِقتباسات من مقالاته وسائل التواصل الاجتماعي كافة، وتنتشر رسوماته وملصقاته في كل مكان، إنها ترمز إلى الثورة وفلسطين وأشياء أخرى.
ثم تبادر إلى ذهني سؤال آخر :
هل بإمكان إسرائيل أن تمحو أثر هؤلاء بكبسة زر؟
بنظرة منصفة لما آلت إليه مجتمعاتنا المتمركزة بمؤخرة العالم، فإن الجهل الذي بتنا نتخبط فيه هو عدونا الأول والأخير، الجهل الذي يغتالنا ونقبل اليد التي تغتال، كما قال نزار قباني.
الجهل المتكدس بأرصفة الوطن، والذي بتنا نراه متجليا بمواقع عالم الاِفتراض، الجهل الاِنتهازي الذي يدعي الثقافة، الجهل الذي يبارزنا عبر نشر اللاوعي، الجهل الذي يتحالف مع الفساد الذي يُفند ويتفند في مدارج المسؤولية حتى يصبح اِنتهازيا برتبة موظف سامي أو حاكم عام، وحده الجهل ما يستطيع اِستئصال حضاراتنا والقضاء على ما تبقى من تاريخنا، الجهل الوصولي الخطير الذي يحرق ويُحرف ويُنمق الحروف، ليجعلها قنطرة عبور نحو مساعيه الدنيئة، فكبسة زر غير مسؤولة، قادرة على إبادتنا شر إبادة، حتى لو كانت من وراء شاشة صغيرة..