يعود اليوم المنتخب الوطني إلى أرض الوطن، في مفارقة غريبة: محمل بهزيمة ضد فرنسا ومرتبا رابعا في هذه العرس الكروي، ومتوجا بإنجاز الوصول إلى نصف النهائي، انجاز لم تصل إليه أي دولة مغاربية وافريقية، وعربية ومسلمة.
لكنه انجاز وصلت إليه البرازيل سابقا والأرجنتين، وتجاوزته للحصول على كأس العالم أو التصنيف الثاني والثالث، وهنا نوسع الدائرة من المغرب الكبير وافريقيا والدول الإسلامية، إلى بلدان مصنفة مثلنا، في مؤشرات التنمية والأعطاب الديمقراطية وغيرها.
ووصلته وتجاوزته بلدان أخرى مثل فرنسا وألمانيا وانجلترا وغيرها، حين نتموقع داخل دائرة الكرة الأرضية برمتها والإنسانية جمعاء.
هو انجاز في بعض الحدود المرسومة، لكنه اخفاق فيما بعدها، فيما هو أشمل وأعم منها.
ليست مهمة اللعبة في حد ذاتها، لو أن البشرية استثمرت في كرة اليد، أو في الريكبي ما استثمرته في كرة القدم، لوقفنا على احتفالية كثيفة بالمنافسات في هذه اللعب الجماعية، شاء القدر وحده والكثير من الصدف أن تكون كرة القدم هي حاملة هذا الاجماع العالمي على التنافس باسم الجماعات: الدول والقارات والأعراق وغيرها.
في الماضي القريب، في آخر مونديال شارك فيه المغرب، روسيا 2018، كان سقف الأمل والتوقع والحلم لا يحيد عن وعينا بذاتنا، نخرج عادة من دور الثمن ونربح فريقا ونؤسس لنواة وتستمر الحياة، حياتنا كشعب ودولة متخلفين.
اليوم نستقبل فريقا كرويا وصل بنا إلى نصف النهاية، وكان من الممكن أن تستمر المغامرة إلى أبعد من ذلك، وهو انجاز يطرح الكثير من الأسئلة للتأمل ويطرح أفقًا للتخمين أيضًا.
ما لم ينتبه له الكثيرون، أن هذه المنافسة العالمية هي الأولى من نوعها بعد جائحة كورونا، وهذه الأخيرة، أي الجائحة، أعادت الكثيرة من المفاهيم والاعتقادات نحو طاحونة المراجعة والتشكيل: تزعزعت المركزية الاروبية نحو شرق اسيا والصين، أظهرت ضعف العالم الغربي وهشاشته في مواجهة الجائحة، برزت الى السطح أنانية الدول الغربية المتشبثة بقيم التسامح والايخاء( السطو على طائرات الحقن، والميز العنصري في توزيعها) عودة روسيا لاحتلال موقعها القوي والقطبي في العالم ثم اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية بعد ذلك، وأحداث كثيرة ساهمت في تشكل الوعي الفردي والجماعي بأنانية المصير وضرورة التركيز على الذات من أجل البقاء في هذا الفسيفساء العالمي.
كان من الضروري أن ينخرط المغرب في هذه الدينامية، بدءً بالبحث عن مصادر التزود بجرعات التطعيم ضد كرونا، وصلت به إلى الاستثمار في وحدة تصنيع للقاحات الصينية على ترابه، وصولا إلى فك الارتباطات السياسية التقليدية، محمولا، أي هذا الفك، على أزمات سياسية مع فرنسا وألمانيا وإسبانيا وفي جزء الولايات المتحدة الامريكية وأخيرا حتى إسرائيل بمعنى من المعاني.
هذه الشروط هي ما أنتجت وعيا تقاسمه المغاربة بشكل كبير: أهمية الانسان في بناء الوطن، في استقلالية عن الخارج: المستعمر السابق، المستغل الراهن، والمضارب بمصالح البلد.
هذا الوعي بتناقضاته وجيوب مقاومته الأفقي والعمودي هو ما شكل خلفية للكثير من القرارات والاحداث التي عرفها المغرب… في المجال الكروي، كان تفكير ووعي الناخب الوطني، وليد الركراكي، التجسيد الفعلي والعملي لتحول هذا الوعي، في شقه الرسمي والمحافظ: عدم الاستكانة للعقلية الانهزامية، الآخرون ليسوا أحسن منا، نستطيع الفوز، مع ما صاحبها من بهارات محلية تمتح من العادات والتقاليد وحتى الخرافة.
بشكل غير رسمي، تجسد هذا الوعي في استجابة أعضاء الفريق الوطني، مع بعض الجسارة في تمثل هذه القيم: الكشف عن مؤامرة الفيفا، الاحتجاج الحضاري ضد الكثير من القرارات، احتجاج أشرف حكيمي عبر اشارته المشهورة وعبر توبيخه لرئيس الفيفا، خروج حكيم زياش من منطق الانهزامية والمظلومية الى فعل الأخذ بالثأر والتألق وغيرها.
طبعا على المستوى السياسي انتصرت هذه العقلية في فتح ثقب في الجمود الرسمي، كان أبرز هذه الثقوب خروج الملك وبعض أفراد العائلة الملكية الى الشارع للتعبير عن فرحهم، مثل جميع المغاربة، الحديث عن ركركة التدبير السياسي للشأن العام، الرفض القاطع لفضيحة التذاكر كمظهر من مظاهر الفساد، وتجسد ذلك في حرمان أعضاء من مكتب الجامعة الملكية لكرة القدم من الاستقبال الملكي، ورجات كثيرة قادمة في الأفق.
الاستقبال الشعبي والملكي للفريق الكروي هو "حشرجة خروج الجديد من القديم " على حد قول المفكر الماركسي مهدي عامل، نتمنى أن لا يتغلب فيه الماضي ويعتبره منتهى الحلم والفعل، وأن ينتصر فيه الجديد ويعتبر بداية لانجازات غير رجعية في الزمن.
هو تشكل للوعي الذاتي في هذا البلد، والذي عليه أن يعتبر الخروج من نصف النهائي في مونديال 2026 هزيمة، لا يستحق عليها اللاعبون استقبالا شعبيًا وملكيا، بل رميا بالطماطم ومحاسبة فعلية.
بقلم المدون عبد العزيز العبدي